فلمَّا هَدَأ غَضبُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم سَأله عُمرُ -كما في رِوايةٍ أُخرى لمُسلمٍ- بأُسلوبٍ أكثَرَ إحكامًا وتَعقُّلًا وأقرَبَ إلى الحقِّ، فجَعَله سُؤالًا عامًّا يَنتفِعُ به جَميعُ النَّاسِ، فسَأله عن صِيامِ الدَّهرِ، وهو صِيامُ كلِّ أيَّامِ السَّنةِ مُتَّصِلةً، وكيْف حالُ صائمِه هلْ هو مَحمودٌ أو مَذمومٌ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «لا صامَ ولا أفطَر»، أو قال: «ما صام وما أفطَر» والمعنى: لم يُكابِدْ سَوْرةَ الجُوعِ وحَرَّ الظَّمأِ؛ لاعتيادِه الصَّومَ حتَّى خَفَّ عليه، ولم يَفتقِرْ إلى الصَّبرِ على الجُهدِ الَّذي يَتعلَّقُ به الثَّوابُ، فصار كأنَّه لم يَصُمْ، وحيث إنَّه لم يَنَلْ راحةَ المُفطِرين ولذَّتَهم فكأنَّه لم يُفطِرْ، وقيل: مَعناه الدُّعاءُ عليه؛ زجْرًا له، ويجوزُ أنْ يكونَ إخبارًا، يعني أنَّ هذا الشَّخصَ كأنَّه لم يُفطِرْ؛ لأنَّه لم يَأكُلْ شيئًا، ولم يَصُمْ؛ لأنَّه لم يكُنْ بأمرِ الشَّارعِ.
فسَأله عن أنْ يَصومَ الإنسانُ يومًا ويُفطِرُ يَومينِ، فيكون صَومُه ضِعفَ فِطرِه، مُستمِرًّا على ذلك حَياتَه، فأجابه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ليْتَ أنَّ اللهَ قوَّانا لفِعلِ ذلك، فكأنَّه استَحسَنَ هذا النَّوعَ مِن الصِّيامِ وتَمنَّاه، قيل: إنَّ هذا التَّمنِّيَ لغَيرِه مِن أمَّتِه؛ فقدْ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يُطيقُه ويُطيقُ أكثَرَ منه؛ فقدْ ثبَت عنه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الوِصالُ في الصَّومِ، وقيل: مَعناه أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لانشِغالِه بأهلِه وضُيوفِه، وبأعمالِه وبالنَّاسِ؛ يَجعَلُه لا يَصومُ هذا المِقدارَ باستمرارٍ، وليْس لضَعْفِ جِبلَّتِه عن احتمالِ الصِّيامِ، أو قِلَّةِ صَبرهِ عن الطَّعامِ في هذه المُدَّةِ.
شرح حديث صيام يوم عرفة وقد جاء في الحديث الآخر الصّحيح سؤال سيدنا عمر -رضي الله عنه- عن صيام يوم عرفة، فردّ عليه النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-: أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ ، ومعنى قوله -عليه الصّلاة والسّلام: "أحتسبُ على الله" أي أرجو من الله، وقوله: "أن يُكفِّر"، أي أن يكونَ صيام هذا اليوم كفَّارة للخطايا الصغيرة للسنة الماضية، وللصغائر في السنة المُقبلة، والتّكفير هنا جاءت مُشدّدة، وهي بمعنى السِتر وإزالة هذه الذنوب عن العبد، ، وحتى إن لم يكن له صغائر للسنة الحاليَّة؛ فإنَّ الله يحفظه من إتيان الصغائر، أو يرحمه ويعطيه من الأجر بقدر كفارته لو كان عليه ذنوب، والمراد بهذا أنَّ الله -تعالى- لا يترك له هذا الأجر ولا يُضيع صيامه هباءً منثوراً.
وقد سُئِلَ أبو قتادة -رضي الله عنه- عن أجر يوم عرفة وأجر يوم عاشوراء؛ فقال إنَّ صيام يوم عرفة يُكفّر الله به السنة السابقة والسنة الحاليَّة، وأمَّا صيام يوم عاشوراء فيكفِّر الله به عن السنة الماضية فقط، وعنه أيضاً -رضي الله عنه- أنَّ رجلاً سأل النَّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كيف نصوم؛ فأخبره -عليه الصّلاة والسّلام- بأنَّ أفضل الصِّيام صيام يوم عرفة؛ فهو يُكفّر سنة قبل وسنة بعد، يليه صيام يوم عاشوراء؛ إذ إنَّه يكفِّر سنة قبل.