زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل 3 وتكسب المعدوم 4 ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق 5 ، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان أمرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى: فقال له ورقة: هذا الناموس 6 الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا 7 ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَمُخرِجِيّ هم؟ » قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا 8 ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي 9 » 10.
عندما نتأمل في حديث السيدة عائشة يمكن للباحث أن يستنتج قضايا مهمة تتعلق بسيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومن أهمها: أولاً: الرؤيا الصالحة: ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - أن أول ما بدئ به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة، وتسمى أحيانًا بالرؤيا الصادقة، والمراد بها هنا رؤى جميلة ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح 11 ولعل الحكمة من ابتداء الله - تعالى -رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي بالمنام، أنه لو لم يبتدئه بالرؤيا، وأتاه الملك فجأة ولم يسبق له أن رأى ملكًا من قبل، فقد يصيبه شيء من الفزع، فلا يستطيع أن يتلقى منه شيئا، لذلك اقتضت حكمة الله - تعالى -أن يأتيه الوحي أولا في المنام ليتدرب عليه ويعتاده 12 والرؤيا الصادقة الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ورد في الحديث الشريف 13 وقد قال العلماء: وكانت مدة الرؤيا الصالحة ستة أشهر، ذكره البيهقي، ولم ينزل عليه شيء من القرآن في النوم بل نزل كله يقظة.